تاريخ “النيران الصديقة” لدى الاحتلال .. لماذا يقتل الجيش أبناءه؟
أخبار حياة – “لقد خرج جنود الاحتلال في منطقة مكشوفة ومُراقبة من المبنى الذي كمنت فيه عناصر الجيش.. سار المخطوفون يحمل أحدهم راية بيضاء وهم عراة من قمصانهم، لاستبعاد إمكانية الاعتقاد بأنهم عناصر تحاول تنفيذ هجوم انتحاري.. وحتى لو شكَّ عناصر الجيش في وجود كمين مُدبَّر من عناصر حماس، كان بإمكانهم تنفيذ إجراء اعتقال معتاد أو حتى إطلاق أعيرة تحذيرية في الهواء”، هكذا تحدَّث الكاتب الإسرائيلي “رون بن يشاي” في مقاله بصحيفة “يديعوت أحرونوت”، واصفا حادثة قتل جيش الاحتلال لثلاثة من أبنائه الأسرى، بعد أن حاولوا إعلان الاستسلام، حيث فتح الجنود النار بكثافة على الأسرى الثلاثة، فقتلوا اثنين وفرَّ ثالثهم (1).
لم تنتهِ القصة هنا، إذ إن قائد الكتيبة التي أطلقت النار ظن أنه في اشتباك مع حماس، وطارد الأسير الثالث الذي اختبأ في أحد المباني، وحين وصل إلى المبنى وسمع شخصا يصرخ “أنقذوني” بالعبرية، دعاه إلى الخروج، ثم أرداه قتيلا. سرعان ما أشعلت القصة وسائل الإعلام في إسرائيل وامتلأت شوارعها بالمتظاهرين. غير أن ما حدث لم يكن شيئا جديدا على جيش الاحتلال، ليس فقط لأنه قتل أكثر من 60 من أسراه في قصفه الوحشي على قطاع غزة، بل لأن قصة احتلال فلسطين وقيام الدولة الصهيونية مرتبطة ارتباطا وثيقا بتاريخ طويل من “النيران الصديقة” التي حصدت أرواح آلاف اليهود لأسباب متعددة. إن الوكالة اليهودية، التي كانت تدين لها بالولاء عصابات الصهاينة قبل عام 1948 حتى أنجبت جيش الاحتلال الإسرائيلي، صرَّحت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بأن عدو الصهيونية الأول هم “اليهود غير الصهاينة ثم الدول الديمقراطية ثم العرب” (2)، وهو ما يجعلنا نتساءل: لماذا يقتل الصهاينة إخوانهم اليهود؟
أكبر من مجرد بروتوكول
بعد إبرام صفقة تبادل الأسرى المسماة “الجليل” بين حكومة دولة الاحتلال والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة أمينها العام أحمد جبريل عام 1985، التي تم بموجبها إطلاق سراح ثلاثة جنود إسرائيليين أسرى لدى الجبهة مقابل 1150 أسيرا فلسطينيا، وبعد 5 أشهر من أسر حزب الله اللبناني لجنديين إسرائيليين وما تلا ذلك من عمليات تبادل للأسرى، صاغت قيادة جيش الاحتلال بروتوكولا يعرقل أسر أي جندي إسرائيلي بأي ثمن (3).
ففي عام 1986، وضع “يوسي بيليد”، رئيس القيادة الشمالية للجيش الإسرائيلي، بالتعاون مع لجنة تكونت من الجنرال المتقاعد “أوري أور”، ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق “غابي أشكنازي”، وقائد المنطقة الشمالية في الجيش “عمرام ليفين”، ومستشار الأمن القومي سابقا الجنرال العقيد “يعقوب أميدرور”، بروتوكولا يسمى “توجيه هانيبال”، تكمن فكرته في مفهوم “الجندي القتيل أفضل من الجندي الأسير”. ويُحدد توجيه هانيبال الخطوات التي يجب على الجيش اتخاذها في حالة اختطاف جندي، بحيث يسمح هذا التوجيه بقتل الجندي قبل أن يصبح أسيرا لدى قوات العدو، وقد استُخدم هذا البروتوكول نحو سبع مرات حسب ما أعلن عنه جيش الاحتلال، غير أن ما حدث أثناء عملية “طوفان الأقصى” تجاوز بكثير حدود البروتوكول.
بحسب عدة مصادر إسرائيلية، لم تفرق نيران قوات الاحتلال بين المقاومة والمستوطنين الإسرائيليين، وقد نشرت صحيفة “هآرتس” أن عدد الناجين من أحداث مستوطنة “بئيري” كانوا اثنين فقط، فبعد ساعات من تبادل إطلاق النار بين قوات الجيش وعناصر حماس خرج أحد مقاتلي حماس ومعه الأسيرة “ياسمين فورات” وقام بإطلاق سراحها. وقد أخبرت قوات وحدة “اليمام” أن بالمنزل 14 محتجزا آخر، غير أن الجنرال “براك حيرام” أمر الدبابات بإطلاق قذائفها على البيت فاحترق بمَن فيه، ولم ينجُ أحد من المحتجزين الذين كان من بينهم طفلان (4).
تكرر الأمر نفسه في الأماكن التي اشتبك فيها جيش الاحتلال مع مقاتلي حماس، حيث قصفت الدبابات والطائرات المنازل والتجمعات، ومنها الحفل الموسيقي الذي أُقيم قرب غزة ليلة 7 أكتوبر/تشرين الأول، ولم يبالِ الجيش بوجود المستوطنين الإسرائيليين بمَن فيهم النساء والأطفال. أما خلال العملية البرية التي يقوم بها جيش الاحتلال في غزة، فأُعلِن عن مقتل 20 جنديا إسرائيليا على الأقل منذ بداية العملية بنيران إسرائيلية (5). و20 هو العدد الأدنى لمَن سقط في حوادث أو وقائع إطلاق نار، ولا يشمل الأسابيع الثلاثة الأولى من الحرب التي سبقت العملية البرية، ما يجعل كل عمليات القتل تتجاوز البروتوكول هانيبال، بل إنها تتعلق بمفاهيم ثابتة لدى الضباط والقادة والمسؤولين في الحكومة تجعل من الجندي أو المستوطن أداة لها وظيفة محددة إن انتفت بات التخلص منها بالقتل أو القصف ضرورة لا غنى عنها.
يهود يُمكن التخلُّص منهم
في كتابه “الصهيونية والحضارة الغربية”، يلخص المفكر عبد الوهاب المسيري نظرة الحضارة الغربية إلى الجماعات اليهودية بتقسيمها إلى فئتين: يهود قابلين للترحيل وهم أكثر اليهود نفعا، ويهود غير قابلين للترحيل ويُستحسن التخلص منهم بوصفهم عناصر غير منتجة. وقد قام المشروع الصهيوني في أوروبا على ترحيل تلك الفئات اليهودية القابلة للترحيل إلى خارج أوروبا لتكون “مادة نافعة” داخل المشروع الاستيطاني الصهيوني، وهذا ما أكده هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، بنفسه حين قال إن مشروعه يقوم على ترحيل الفائض البشري اليهودي غير النافع من أوروبا وتحويلهم إلى عنصر نافع في الدولة الصهيونية التي ستعمل لصالح الغرب (6).
وما إن اطمأنت المنظمة الصهيونية(أ) بتبني الدول الغربية لمشروعها، حتى بدأت في تنفيذ خطتها، لكن واجهتها مشكلتان: الأولى أن فلسطين ليست أرضا بلا شعب، كما روجت المنظمة الصهيونية في أوروبا، بل كانت مسكونة بشعب له حضارته وثقافته العريقة، والمشكلة الثانية أن اليهود في بلاد الشتات، خاصة في بريطانيا والولايات المتحدة والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لم يكونوا مقتنعين بالصهيونية ولا بالهجرة إلى فلسطين. ولذلك يشرح “توماس سواريز” في كتابه “دولة الإرهاب: كيف قامت إسرائيل على العنف” أن المنظمة الصهيونية بدأت باستهداف اليهود أنفسهم بهدف تدمير مجتمعاتهم المحلية وتدمير أي ملاذات آمنة يلجؤون إليها، بل ووصل الأمر لاختطاف الأيتام اليهود ومضاعفة معاناة اليهود المُهجَّرين في أوروبا بسبب حرب النازيين عليهم لإجبارهم على الهجرة إلى فلسطين.
في يوليو/تموز 1938، جمع الرئيس الأميركي روزفلت ممثلين عن 32 بلدا بهدف تحمُّل مسؤولية توطين اليهود الذين كان النازيون يستهدفونهم، لكن المنظمة الصهيونية العالمية رفضت المشاركة لأن المؤتمر لم يقم على أساس إنشاء دولة صهيونية في فلسطين. وفسَّر بن غوريون عدم مشاركة المنظمة الصهيونية بأن “إيجاد مواطن آمنة لليهود سيُضعف مشروعهم”. وفي خطاب ألقاه بن غوريون في ديسمبر/كانون الأول 1938(ب)، هاجم فكرة إنقاذ أطفال اليهود الألمان بإرسالهم إلى بر الأمان في إنجلترا، وهي عملية كانت تجري تحت اسم “نقل الأطفال”. فبدلا من أن يرى جميع الأطفال اليهود الموجودين في ألمانيا وقد أُنقِذوا بإرسالهم إلى إنجلترا، قال بن غوريون: “من الأفضل أن يُذبح نصفهم على يد النازيين من أجل إرسال النصف المتبقي ليكونوا مستوطنين في الدولة الصهيونية” (7).
لم تكن كلمات “بن غوريون” مجرد كلمات مجازية، فبعد أن وضعت الحرب أوزارها ساعد الرجل في عمل تخريبي ضد منازل لإيواء الأطفال الناجين، وجعل الأطفال يتضورون جوعا في معسكرات مخصصة للأشخاص الذين فقدوا بيوتهم وأُجلوا عن بلادهم. ولم يكن اليتامى من اليهود الذين أعدّت الدولة المساكن لهم في مأمن، فقد تعرضوا لحملات شُنَّت لاختطافهم من البيوت التي أُنشئت خصوصا لهم في أوروبا، وذلك لنقلهم إلى فلسطين كي يُشكِّلوا حقائق سكانية على أرض الواقع. وكان المصير اللائق بالنسبة إلى هؤلاء الأطفال من وجهة نظر “إسحاق هيرتسوغ”، كبير الحاخامات اليهود في فلسطين منذ عام 1937، هو اختطافهم، ومن ثم أُبعد آلاف الأطفال اليهود بالقوة من البيوت التي تبنَّتهم وأنقذتهم بعد وفاة آبائهم قبل سنوات، ونُفِّذ الاختطاف أحيانا بمساعدة جنود اللواء اليهودي المسلحين.
وفي عام 1946، سافر كبير الحاخامات إلى أوروبا على مدى ستة أشهر لتقصِّي أماكن الأطفال والتخطيط لخطفهم، إذ كان العدد الذي وضعه نصب عينيه عشرة آلاف طفل، لكنه عندما وصل إلى أوروبا وجد مقاومة عنيفة من قِبَل المنظمات اليهودية المحلية. فجمعية معونة الأطفال مثلا كانت تشمل 600 طفل يعيشون في بيوت مسيحية، لكن الجمعية لم تشأ أن تجعل منهم أيتاما مرة أخرى. وقد صبَّ هِرتسوغ جام غضبه عليها لأنها “لم تفعل شيئا لأخذ الأطفال”، واستخدم سلطته للوقوف ضدها، وتمكَّن من انتزاع 250 من الأطفال من بيوتهم. وفي أواخر عام 1941، حين كان اليهود يُنقَلون بالقطارات إلى معسكرات الموت، وصفت عصابة الإرغون(ج) محاولات منحهم ملاذات آمنة خارج فلسطين بأنها “معادية للسامية”، ونشرت تحذيرات موجَّهة إلى اليهود الذين يختلفون مع الفكر الصهيوني تُثنيهم عن التدخل في حق الصهاينة الإلهي ليحكموا فلسطين وشرق الأردن.
وقد وصل تخريب الملاذات الآمنة إلى الولايات المتحدة عام 1944، عندما وقف الزعماء الصهاينة الغاضبون ضد محاولات الرئيس روزفلت تأمين 150 ألف مسكن جديد للمُهجَّرين من بلادهم من أصل نصف مليون في جميع أنحاء العالم. وعندما دعت الحاجة أُتي بيهود شمال أفريقيا والشرق الأوسط “لتغذية الترسانة الحربية والبشرية” التابعة للدولة الصهيونية، وفقا لتعبير “حنة براون” عضوة منظمة الهاغاناه التي شاركت في عملية إحضارهم إلى إسرائيل. وقد بدأت المنظمة الصهيونية في شن حملات ترهيب واغتيالات وقتل يهود البلاد العربية من العراق وحتى المغرب، أدت إلى تدمير مجتمعاتهم المحلية بالكامل (8)، وعندما وصلوا إلى فلسطين المحتلة واجهوا موجات من التمييز والاضطهاد والعنف حتى أصبحوا يهودا من الدرجة الثانية (9). وللمفارقة، لم يستهدف الإرهاب والعنف الصهيوني اليهود خارج فلسطين فقط بهدف إجبارهم على الهجرة إليها، بل كذلك استهدف اليهود داخل فلسطين لتصفية كل مَن يقف أمام المشروع الصهيوني فيها.
حطب الصهيونية
قامت دولة الكيان الصهيوني على التعريف الذي أعطته أوروبا لليهود بأنهم عِرق من الأعراق على أساس الانتساب بالدم، ومنحت نفسها حق تحديد الضوابط الجينية لهذا العِرق، وهي إحدى السمات المُرتبطة بظاهرة “معاداة السامية” في أوروبا. وكان من شأن ذلك أن يدفن الصهيونية في مهدها عندما ظهرت في أوروبا، لكن هرتزل رفض ربط أيديولوجيته الجديدة بظاهرة “معاداة السامية” عبر ادعاء أنه يُمثِّل كل يهود العالم، وأن الصهيونية هي المعيار الذي يميز اليهودي الصالح عن اليهودي الطالح. وقد صرح هرتزل أكثر من مرة أن “اليهودي الحق لا يمكنه أن يعادي الصهيونية”، وأنه “لا يفعل ذلك إلا الموشل”. (والموشل كلمة ألمانية تعني اليهودي المتدين الذي قال عنه هرتزل إن مجرد النظر إليه بدون لمسه يدعو للتقزز) (10).
غير أن الصهيونية في بدايتها عُدَّت في أوروبا “حركة معادية للسامية” لأسباب أهم بكثير من كراهية هرتزل لليهود التقليديين، فقد كتب مراسل جريدة “لندن ستاندرد” في برلين بعد انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 قائلا: “إن فكرة إنشاء دولة يهودية حديثة لا تلقى حماسا كبيرا في ألمانيا باستثناء المعادين للسامية، فقد سمّتها صحيفة “كولنيش” من أشد الأفكار شطحا في هذا العصر”. ولخَّصت صحيفة “فرانكفورتر تسايتونع” الموضوع في مقال على هذا النحو: “إننا نقول باختصار إن هذا الانحطاط الذي يدعو نفسه معاداة السامية قد ولَّد الانحطاط الذي اتخذ من الصهيونية اسما له”. ورغم ذلك استمرت الصهيونية وعصاباتها المتطرفة في ادعاء أنهم يمثلون اليهود ومصالحهم في كل بقاع العالم، واستمدوا من هرتزل ومؤسسي الحركة الصهيونية ذلك الوصم الذي ألصقوه بكل مَن يعارض مصالحهم وأفكارهم الصهيونية، وأصبح أي يهودي يعارض الصهيونية “مرتدا أو خائنا” (10).
على سبيل المثال، وفي وقت مبكر من عمر الوجود الصهيوني في فلسطين، عندما رفضت المُعلمة “آني لاندتو” أن تقف عند عزف “النشيد القومي الصهيوني” في مارس/آذار 1919 بمناسبة افتتاح مدرسة جديدة للموسيقى؛ تعرَّضت للهجوم، وقارنتها جريدة “هآرتس” بشخص اسمه “يعقوب إسرائيل دي هان”، الذي وُصِف بأنه “من حثالة المعادين للسامية” بسبب نقده للصهيونية، ووصفه بن غوريون بأنه “خائن”. لم يقتصر الأمر على مهاجمة معارضي الصهيونية، بل اتخذ شكلا أشد فظاعة عام 1924، عندما أطلق الصهاينة الرصاص على “يعقوب دي هان”، وأصبح بذلك الضحية السادسة للاغتيالات المتصاعدة بوجه اليهود المعارضين للصهيونية، والضحية الأولى لمنظمة الهاغاناه التابعة للوكالة اليهودية. وفي 6 يوليو/تموز 1938، تسللت عناصر من العصابات الصهيونية إلى سطح أحد الدكاكين في مدخل سوق علون، وألقوا قنبلة على تجمُّع من العرب قُرب دكان لصراف يهودي فمات هو وابنه. كما أعدمت عناصر العصابات الصهيونية عددا من رجال الشرطة اليهود الذين كانوا يعملون تحت إمرة البريطانيين (10).
بحلول عام 1940، تصاعد استهداف اليهود “غير المتعاونين”، حيث فُجِّرت دارا السينما “عدن” و”المشرق”، ثم تعرضت مطابع جريدة “هابوكر” للهجوم، بسبب امتناع الجريدة عن طبع “بيان” صهيوني. وعندما قام أحد رجال الشرطة اليهود بالقبض على شابين من المتطرفين اليهود، اجتمعت عليه ليلا عناصر من العصابات الصهيونية وضربوه بقضبان حديدية حتى الموت، وقتلوا شرطيا يهوديا آخر رميا بالرصاص في حيفا، وبعدها قامت جماعة تنتمي إلى العصابات الصهيونية بقتل أربعة جنود يهود بعد أن اعتبروهم “خونة للقضية اليهودية”، وفق وصف البريطانيين للحادثة (10).
وبالمثل، كان لقب “خائن” هو اللقب الذي أطلقته منظمة الهاغاناه على يهودي من السفارديم اغتالته في مايو/أيار 1940، كما أحرقت المطبعتين اللتين خدمتا المهاجرين اليهود الألمان بلغتهم الأم في العام نفسه، ثم أحرقت عصابة الإرغون حافلتيْن من حافلات شركة يهودية، فيما استمرت أعمال العنف ضد المحال التي تتعامل مع البضائع أو المنتجات الفلسطينية بيعا أو شراء. وتعرض اليهود الذين كانوا يرفضون دفع الأموال للصندوق القومي اليهودي للتهديد، فقد فُجرت سيارتان تابعتان ليهوديَّيْن رفضا دفع “ضريبة” خاصة فرضتها الوكالة اليهودية.
في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1940، وقع أشد أحداث الإرهاب فتكا لليهود المعارضين للصهيونية، وذلك عندما نقل البريطانيون مسافرين من ثلاث سفن إلى سفينة اسمها “باتريا” كي تأخذهم إلى جزر الموريشيوس حيث كانت توجد أماكن مخصصة للمهجَّرين هناك. وقد انتهى البريطانيون من نقل آخر لاجئ إلى ظهر السفينة في ليلة 24 نوفمبر/تشرين الثاني، وفي صباح اليوم التالي حدث انفجار قوي انشقت السفينة على إثره نصفين. وفي غضون 15 دقيقة انقلبت السفينة تماما في ميناء حيفا، وقُدِّر عدد القتلى بمئتين من اليهود الهاربين من الحرب الدائرة في أوروبا، منهم خمسون من البحارة والجنود (10).
بعد الحادثة، سارعت كلٌّ من عصابة الإرغون والوكالة اليهودية لنفي مسؤوليتهما عن المذبحة. ورغم أن شكوك البريطانيين انصبت على الإرغون، سرعان ما تبيَّن أن التفجير كان من فعل منظمة الهاغاناه التابعة للوكالة تحت إمرة “موشي شاريت”، الذي أصبح رئيسا للوزراء في إسرائيل فيما بعد، ما سبَّب إحراجا بالغا للوكالة اليهودية أمام المجتمع الدولي، وجعل وسائل الإعلام الصهيونية وقتها تروِّج بأن المهاجرين قتلوا أنفسهم بإغراق سفينتهم كما حدث في أسطورة ماسادا التوراتية (10).
ثم في يونيو/حزيران من العام التالي أُلقيت قنبلة على بيت السيد “تسفايغ” في تل أبيب، تحذيرا له بسبب عدم دفعه مبلغ 200 ليرة. وفي يوليو/تموز اختُطِف “روزنر” من تل أبيب واقتيد إلى مكان عُذِّب فيه بسبب امتناعه عن دفع مبلغ 400 ليرة، وبعد ذلك بثمانية أيام انفجرت قنبلة أمام بيته في تل أبيب. وفي الشهر نفسه أُلقيت قنبلة على بيت السيد “دانكنر” في بتاح تكفا بعد أن أُمِر بدفع 400 ليرة، وبعد ذلك بستة أيام دُمِّر بيته بقنبلة. وفي عام 1942، تلقى رجال الشرطة إخبارية من مخبر مجهول عن سماع انفجار عند بيت في تل أبيب، وحين استجابوا للفخ المنصوب لهم، قُتِل أربعة رجال شرطة بعد أن انفجرت قنابل دمرت البيت فور دخولهم إياه.
كان جميع القتلى من اليهود، وكان أحد الموتى قد أفشل هجوما فلسطينيا ضد اليهود عام 1937، وكان يُراد من الثاني أن يشهد ضد عصابة صهيونية قتلت اثنين من المارة اليهود أثناء عملية سرقة قامت بها. وقد استمرت هذه الممارسات طيلة السنوات التي سبقت النكبة للتضييق على اليهود الذين لم تكن آراؤهم مُرضية في نظر قادة الصهيونية، وكذلك على أي يهودي يستعمل لغته الألمانية. فقد مُنعت مجلة “أوريَنت” الأسبوعية التي كانت تصدر بالألمانية بأمر من المجلس الصهيوني لنشر اللغة العبرية. وعندما حاول المهاجرون اليهود الناطقون بالألمانية في مايو/أيار 1942 عَقْد لقاء لعُصبة مناهضي الفاشية في سينما بتل أبيب، هاجمتهم جماعات من المخربين ضمَّت أبناء بعض مسؤولي الوكالة اليهودية. أما الجريدة اليومية التي صدرت بالألمانية بعنوان “بلومِنتال نويستِه ناخريخستن”، وكتب فيها مهاجرون ألمان وعكست نبرة صهيونية أخف مقارنة بالوكالة اليهودية وعصاباتها الإرهابية، فتعرضت نسخها للاحتراق ثم فُجِّرَت مطبعتها في يونيو/حزيران 1942.
يتضح من التاريخ الطويل للعنف الصهيوني ضد اليهود أنفسهم ما ذهب إليه عدد من المفكرين بأن الصهيونية جنَّدت اليهود لصالح مشروعها، لكنهم ظلوا غير مُهمين بوصفهم بشرا في نظر المسؤولين الصهاينة داخل إسرائيل أو خارجها، وهذا ما أكدته افتتاحية صحيفة “هآرتس” بعنوان “صفقة أسرى الآن” (11)، حيث قالت إن “الهجوم المضاد الفتاك الذي شنَّته إسرائيل على حماس في غزة من جهة، والأصوات التي تتصاعد من الحكومة من جهة، كلها تدل على أن إعادة الإسرائيليين ليست على رأس اهتمامات الحكومة. والأخطر من ذلك ما يبدو من أن الحكومة قررت تفعيل بروتوكول هانيبال على نحو 150 أسيرا إسرائيليا”. بعد مرور أكثر من شهرين على الحرب، تصر إسرائيل على ترتيب وضع أمني جديد في غزة غير مبالية بما يتكبده جيشها من خسائر، كما تواصل القصف العشوائي والوحشي غير مكترثة بالضحايا الفلسطينيين والأسرى الإسرائيليين، والأيام القادمة وحدها ستكشف ما تؤول إليه جرائم آلة القتل الإسرائيلية.
الجزبرة